العلويون في سوريا – 1
على مدار قرون، تعرّض العلويون في سوريا للمجازر والقمع، وخصوصاً على يد العثمانيين بسبب اختلافهم الديني، ما دفعهم للاحتماء بالجبال. ولكن هذا أسهم في عزلتهم الاجتماعية والسياسية لفترات طويلة.

جذور العلويين وتاريخهم والمجازر التي ارتكبت بحقهم
في زوايا التاريخ المتشابكة، وبين خيوط العقيدة والسياسة، برزت الطائفة العلوية كواحدة من أكثر الجماعات الدينية غموضاً وإثارة للجدل في المشرق العربي. لم يكن مسارها مجرد رحلة عقائدية، بل صراعاً مستمراً بين التهميش والاضطهاد، وبين السلطة والنفوذ، ما جعلها تتأرجح بين دور الضحية ودور الحاكم.
وفي هذا الملف، سنتطرق إلى عقيدة العلويين، وانتشارهم، والمجازر التي ارتُكبت بحقهم، وصولاً إلى الانتداب الفرنسي وبدء صعودهم، وازدياد دورهم في ظل نظام الأسد الأب والابن. وأخيراً، سنتناول سقوط هذا النظام وما تعرضوا له من جرائم تصفية طائفية على يد الحكام الجدد في دمشق.
نشأة العلويين: عقيدة باطنية وهوية غامضة
تعود جذور الطائفة العلوية إلى القرن التاسع الميلادي، حيث نشأت في ظل اضطرابات سياسية ودينية هزّت العالم الإسلامي آنذاك. تشكّلت عقيدتها من مزيج من التشيّع الإثني عشري والتصوف، مع تأثر بالفلسفة الغنوصية التي تركز على المعرفة الباطنية كوسيلة للخلاص الروحي.
ينسب العلويون عقيدتهم إلى محمد بن نصير، الذي ادّعى أنه الباب إلى الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، ما أدى إلى تسميتهم بـ"النصيرية" قبل أن يتم اعتماد اسم "العلويين" في القرن العشرين في محاولة لتقريبهم من التيار الإسلامي العام.
يعتمد العلويون على تأويل باطني للنصوص الدينية، حيث يختلف تفسيرهم للقرآن والسنة عن بقية المذاهب الإسلامية، ويرتكزون على مبدأ التناسخ الروحي، الذي يعتبر أن الأرواح تتنقل عبر حيوات متعددة حتى تصل إلى النور الإلهي. هذه الخصوصية العقائدية، بالإضافة إلى طقوسهم السرّية، جعلتهم محطّ ريبة وشك لدى الأغلبية المسلمة، وعرّضتهم لموجات متكررة من الاضطهاد والتهميش.
التوزع الجغرافي
يتوزع العلويون جغرافياً في عدة مناطق، حيث يشكلون جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي في سوريا، إلى جانب وجودهم في تركيا ولبنان، مع أعداد أقل في العراق وفلسطين.
وتُعد سوريا المعقل الرئيسي لهم، إذ يشكلون حوالي 10-12% من السكان، ويتمركزون في الساحل السوري، وخاصة في اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين، وهي مناطق وعرة اتخذوها ملاذاً تاريخياً للحماية من الاضطهاد. كما توجد تجمعات كبيرة لهم في وسط سوريا، تحديداً في حمص وريف حماة، خاصة في القرى الريفية مثل مصياف وسلمية، إضافة إلى وجود أقلية في دمشق وحلب، حيث انتقل البعض إليها مع توسع الدولة السورية الحديثة.
أما في تركيا، فيُقدّر عدد العلويين بالملايين، لكن معظمهم يتبعون الفرع "البكتاشي" الذي يختلف عن العلويين السوريين، ويتمركزون في لواء إسكندرون (هاتاي حالياً)، وخاصة في أنطاكيا والإسكندرونة وريفهما، إلى جانب انتشارهم في مناطق شرق الأناضول مثل تونجلي وسيواس ومالاطيا.
وفي لبنان، يشكّل العلويون أقلية صغيرة، تتركز في شمال البلاد، خاصة في منطقة جبل محسن بمدينة طرابلس، وكذلك في بعض القرى في وادي خالد وعكار.
أما في العراق وفلسطين، فتوجد أعداد قليلة من العلويين، لا سيما بين العائلات التي هاجرت عبر التاريخ، ورغم وجود إشارات تاريخية على وجودهم في فلسطين، إلا أن عددهم اليوم يكاد يكون معدوماً.
ورغم هذا الانتشار، ظل العلويون، خاصة في سوريا، محافظين على طابعهم القروي والجغرافي الجبلي، وهو ما ساعدهم على حماية أنفسهم تاريخياً من الاضطهاد، لكنه أيضاً أسهم في عزلتهم الاجتماعية والسياسية لفترات طويلة.
مجازر وتهميش عبر التاريخ
عبر القرون، عانى العلويون من التمييز والقمع، وبلغ اضطهادهم ذروته خلال العهد العثماني، ولم يكن هذا الاضطهاد مجرد تمييز ديني أو اجتماعي، بل كان سياسة ممنهجة استمرت لقرون، استهدفت وجودهم بشكل مباشر. ففي نظر العثمانيين، كان العلويون "زنادقة" و"خارجين عن الإسلام"، مما جعلهم عرضةً للقتل والتهجير والتمييز الاقتصادي والاجتماعي.
وكانت مدينة حلب، التي كانت تضم وجوداً علوياً بارزاً، إحدى أهم الساحات التي شهدت اضطهاداً قاسياً بحقهم، إلى جانب مناطق أخرى في الشمال السوري.
المجازر العثمانية في حلب والمناطق السورية الأخرى
على مدار قرون، واجه العلويون في الشرق الأوسط اضطهاداً ممنهجاً على يد الدولة العثمانية، التي نظرت إليهم بوصفهم خارجين عن الإسلام الرسمي للدولة. بدأ هذا الاضطهاد مع دخول العثمانيين إلى سوريا عام 1516 بعد معركة مرج دابق، حيث أصدر السلطان سليم الأول فرمانات دينية اعتبرت العلويين زنادقة، مما مهّد الطريق لمذابح واسعة استهدفت وجودهم.
في حلب وريفها، شنّت القوات العثمانية حملات قتل جماعي أدت إلى إبادة عائلات بأكملها، وتدمير القرى، وسبي النساء، إلى جانب نهب ممتلكاتهم وتجريدهم من أراضيهم الزراعية، مما فاقم من فقرهم وعزلتهم.
ولم يكن الساحل السوري بمنأى عن هذه الممارسات، حيث شهدت مناطق اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر حملات عسكرية متكررة، ترافقت مع فرض ضرائب باهظة أرهقت السكان وأجبرتهم على بيع أبنائهم كخدم للنجاة من الجوع. كما تعرّضت القرى العلوية في جبال اللاذقية للإحراق والدمار، ما دفع الكثيرين إلى النزوح إلى مناطق أكثر عزلة.
ومع تراجع الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، استمر القمع من خلال فتاوى دينية أصدرتها السلطنة لتبرير استهداف العلويين، خصوصاً في حلب والأناضول. أدت هذه الفتاوى إلى موجات جديدة من العنف وتهجير أعداد كبيرة من العلويين قسراً من حلب وإدلب ومعرة النعمان، مما دفع العديد منهم إلى اللجوء إلى الجبال أو الهجرة إلى لبنان والأناضول.
رغم أن العثمانيين كانوا الأكثر وحشية في استهداف العلويين، إلا أن المماليك سبقوهم بممارسات مشابهة، حيث فرضوا ضرائب مضاعفة ونفذوا حملات قتل ضدهم، خصوصاً في حلب وطرابلس، مما أجبرهم على الهروب إلى المناطق الجبلية وعزز من عزلتهم.
أدت هذه الجرائم المستمرة إلى تشكيل عقلية جماعية بين العلويين قائمة على الخوف من الاضطهاد واللجوء إلى العزلة. وأصبحوا يعتمدون على الجبال كمناطق آمنة، وأبقوا عقائدهم الدينية وطقوسهم سرية خوفاً من تكرار المجازر.
الانتداب الفرنسي ونقطة التحوّل
مع وصول الانتداب الفرنسي إلى سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، أدرك الفرنسيون أهمية توظيف الطوائف لتحقيق مصالحهم الاستعمارية، فقاموا بتجنيد العلويين في وحدات عسكرية خاصة، مستفيدين من فقرهم واستبعادهم الطويل من مؤسسات الدولة. أدى ذلك إلى تعزيز وجودهم في الجيش، وهو ما شكّل لاحقاً البوابة الرئيسة لوصولهم إلى مراكز السلطة بعد استقلال سوريا.
غداً: تحولات العلويين في سوريا خلال القرن العشرين
(ح)
ANHA