80 عاماً من الذكريات... محلٌّ يروي حكاية حي بأكمله
في قلب عامودا، وبين الأزقة الضيقة المبللة بعبق التراب وأثر الخطى، يقف محل صغير مثل حارس وفيّ لذاكرة حيّ كامل. هنا، في "محل شيخكي"، تجلس عقود من الوفاء والكدّ على كرسي خشبي، تحكيها ملامح العم حج أحمد الذي لا يزال يفتح محله كل صباح، كما كان يفعل والده منذ أكثر من ثمانية عقود.
في زاوية ضيقة من السوق القديم في مدينة عامودا، حيث تختلط روائح الخبز الطازج برائحة الفاكهة، يقف محل صغير تحوّل عبر العقود إلى معلم شعبي يختزل ذاكرة حيّ كامل. إنه "محل شيخكي"، الاسم الذي يُطلقه الأهالي على محل السمانة العتيق الذي يديره العم حج أحمد، أحد أقدم تجار المدينة الذين لا يزالون يزاولون عملهم حتى اليوم.
رغم بلوغه التسعينات من عمره، لا يزال العم أحمد يفتح باب محله صباح كل يوم، ويجلس على كرسيه الخشبي خلف طاولة خشبية صغيرة، يحيّي الزبائن بابتسامة تنبع من سنوات طويلة من الصدق والأمانة في العمل، ليواصل رحلة بدأت قبل أكثر من 80 عاماً.
الجذور الأولى: رحلة إلى ماردين والعودة مجدداً إلى عامودا
تبدأ حكاية المحل مع شيخو، والد العم أحمد، الذي غادر مدينته عامودا إلى مدينة ماردين في شمال كردستان عام 1937، برفقة عائلته ليستقر هناك ثلاث سنوات، ثم يعود مجدداً إلى مدينته عامودا ويفتتح أول محل تجاري له عام 1940.
في ذلك الزمن، كانت السلع تُوزع عبر دفاتر التموين، وكان بيع الزيت والسكر يتم بالكيلوغرامات في أكياس وعبوات معدنية، بعيداً عن ملامح السوق الحديثة وأكياس النايلون.
كان المحل يستخدم ميزاناً نحاسياً تقليدياً يتوسطه حجر صغير، مشهدٌ ظل حاضراً في ذاكرة العم أحمد، بل وفي المحل ذاته حتى يومنا هذا.
من اللبن إلى التجارة المفتوحة
بدأ المحل بتجارة اللبن فقط، قبل أن يتوسع والده تدريجياً ليجلب البصل والبيض من مدينة حلب. وحين بلغ العم أحمد الثامنة عشرة من عمره، بدأ يرافق والده في رحلاته، ثم تسلّم دفة العمل بنفسه قبل أكثر من خمسين عاماً، جامعاً بين التجارة وشغفه بالحكايات التي اعتاد بيعها لأطفال الحي حيث كان يجلب القصص معه من مدينة حلب.
ويقول العم أحمد: "في أولى زياراتي لحلب، كنت أطلب من كبار السن مرافقتي لأتعلم الطريق. كنت أعود محمّلاً بالقصص والأقمشة الغريبة... كنت أحب أن أجلب شيئاً جديداً للناس هنا".
محل تحدّى الزمن... ونجا من السيول
واجه "محل شيخكي" الكثير من التحديات، أبرزها فيضانات عام 1953، التي اجتاحت المدينة بسبب السيول القادمة من الجبال المجاورة. إلا أن المحل، كما صاحبه، قاوم وواصل العمل دون انقطاع. تغيّرت واجهته ومظهره مع مرور الزمن، لكن روحه الأصلية بقيت حاضرة.
ويقول العم أحمد: "كان المحل مبنياً من الطين وأبوابه من الخشب، ومع مرور الزمن غيّرنا كثيراً، لكن لم أستطع التخلي عن الميزان النحاسي والمروحة القديمة، فهما جزء من الذاكرة".
مكان للبيع... ومتحف للذاكرة
ما يميز محل العم أحمد اليوم ليس فقط تاريخه الطويل، بل قدرته على الاحتفاظ بملامحه الأصلية رغم كل التغيرات المحيطة. فبين رفوف الأواني المنزلية المتنوعة، ما زال التلفاز القديم في مكانه، والمروحة المعلقة على السقف تدور ببطء، شاهدة على عقود من القصص والأحاديث بين البائع وزبائنه.
"هذا المحل هو بيتي الثاني، لا أستطيع الابتعاد عنه... فيه ذكرياتي كلها"، يقولها العم أحمد بصوته الهادئ، بينما يواصل عمله بمساعدة ولديه عبد الباسط وعلاء، اللذين حرصا على تحديث بعض التفاصيل مع الحفاظ على الطابع التراثي الأصيل.
مرآة لزمنٍ مضى... وزائرون من كل الأجيال
تحوّل محل "شيخكي" إلى وجهة لأبناء المدينة وزائريها، ليس فقط لشراء الأغراض، بل لاستعادة رائحة الماضي وصوت الذاكرة. أطفال الأمس، الذين اعتادوا شراء الحلوى من يد العم أحمد، أصبحوا آباء اليوم، يأتون بأطفالهم ليتعرفوا على جزء من طفولتهم.
"أكثر ما يسعدني أن أرى أحفاد زبائني القدامى يدخلون المحل وهم يضحكون... هذه الذكريات لا تُشترى"، يضيف العم أحمد بابتسامة تغلب عليها المحبة والتفاني.
حب العمل سر الاستمرار
بعد أكثر من خمسين عاماً من العمل المتواصل، يرى العم أحمد أن الحب والتفاني هما سر الاستمرار والبقاء. ويقول: "أنا شغوف بعملي، ولهذا ما زلت آتي إلى المحل كل يوم. العمل ليس تعباً إذا أحببته".
إن "محل العم أحمد" ليس مجرد دكان صغير في سوق عامودا، بل صفحة حية من تاريخ المدينة، وشاهد على تحولاتها، ومتحف للذاكرة الشعبية لا تُقدّر قيمته بثمن. وبينما تغيّرت ملامح الأسواق والمحال من حوله، لا يزال المحل يقف شامخاً، كما صاحبه، يحتضن دفء الحكايات، ويمنح الأمل لأولئك الذين يؤمنون أن الوفاء للمكان والناس أقوى من الزمن.
(ح)
ANHA